لغز أبونا أيوب المحرقي: قصة الراهب الأُمِّي الذي امتلك أغلى جنازة في تاريخ الدير
المشهد يبدو غير منطقي على الإطلاق: نعش بسيط يحوي رجلاً عاش أبسط حياة ممكنة، ثيابه بالية ورائحتها كريهة حتى أنها جفت عليه وصارت كالخشب. رجل لا يعرف القراءة أو الكتابة، لو أعطيته قلماً لما استطاع أن يخطّ به اسمه. كيف إذن يقف في جنازته صفٌ أول من كبار ضباط الشرطة؟ وكيف يسير خلف نعشه ثلاثة من أكبر أساقفة الكنيسة؟ كيف يهز موكبه ديرًا بحاله ويتحول إلى حدثٍ تاريخي؟
هناك لغز ما في هذه الجنازة. وهذه هي حكاية أبونا أيوب المحرقي، الراهب الذي عاش ومات وهو السر الأعظم في زمنه، وهي قصة حقيقية وصلت إلينا شهاداتها الحية عن قديس عاصرناه.
من هو أبونا أيوب؟ من الإبرة والخيط إلى حياة الرهبنة
تبدأ الحكاية مع شاب بسيط اسمه "زاهر"، يعمل خياطاً متواضعاً "ترزي" يكسب رزقه من خياطة الملابس للناس. لم يكن أحد ليتخيل أن زاهر سيترك إبرته وخيطه ذات يوم، ويدخل الدير ليتحول إلى واحدة من أكثر الشخصيات المحيرة في تاريخ الرهبنة المصرية. قضى أبونا أيوب في الدير 42 عاماً، لكنه لم يكن راهباً عادياً.
طوال هذه العقود، لم يحفظ مزموراً واحداً من صلوات الأجبية، ولم يكن يستطيع فك الخط. في إحدى المرات، أراد رئيس الكنيسة أن يكرمه، فطلب منه أن يصلي إنجيل الساعة التاسعة. نظر إليه أبونا أيوب ببراءة وعفوية مطلقة وقال: "وهل أنا أعرف يا أبونا هم رجعوا أم لم يرجعوا؟". قد يرى البعض في هذا جهلاً، لكن من عاشوا معه رأوا أمراً آخر؛ لقد رأوا رجلاً وصل إلى درجة من السلام الداخلي والفرح، لدرجة أنه لم يعد بحاجة لأن يقرأ عن السلام ليعيشه.
حياة تكسر قوانين الطبيعة: الجلابية الواحدة والقلّاية المفتوحة
لم يكن اللغز في بساطته فحسب، بل في أسلوب حياته الذي تحدى كل منطق. كانت "قلّايته" (غرفته في الدير) مفتوحة الأبواب والشبابيك دائماً، لا تُغلق أبداً، لا في برد الشتاء القارس ولا في حر الصيف الحارق. والعجيب أنه طوال 42 عاماً، لم يُصب بنزلة برد، لم يشتكِ من مرض، لم يزر طبيباً، ولم يبتلع حبة دواء واحدة.
أما عن ثيابه، فقد كان يمتلك جلابية واحدة فقط طوال 42 عامًا. لم يغيرها ولم يغسلها، حتى أصبحت ثقيلة وناشفة من أثر العرق والتراب، كأنها درع يرتديه. وحتى نومه كان حكاية بحد ذاتها، فلم يفرد جسده على سرير قط، بل كان ينام جالساً على كرسي خشبي لدقائق معدودة، ثم ينهض لعمله كمسؤول عن جرس الدير، يوقظ الرهبان للصلاة في منتصف الليل، ثم ينتظرهم بالساعات حتى ينتهوا ليدق جرس القداس، وبعدها يذهب لينام لمدة ساعة واحدة فقط على دكة خشبية حتى تشرق الشمس وتوقظه.
سر النور في وجهه: حديثه مع السامرية
إذن، ما سر هذا الرجل؟ هل هو مجرد إنسان بسيط يعيش حياة غريبة؟ هنا بدأ اللغز يكشف عن نفسه. فخلف هذه البساطة الظاهرة، كان يختبئ عمق روحي لا يظهر إلا لمحة. في أحد أيام الصوم الكبير، مرّ راهب بجوار قلاية أبونا أيوب المفتوحة، فسمعه يتحدث مع شخصٍ ما. نظر من الشباك، فوجد أبونا أيوب واقفاً بمفرده، لكن وجهه كان يضيء كالشمس، وكان يتحدث بفرح طفولي مع السامرية التي في الإنجيل وكأنها تقف أمامه قائلاً: "يا سمرية... يا سمرمورة!".
لقد كان يعيش في عالم آخر، عالم من النور والفرح الروحي الذي لا يحتاج إلى قراءة أو معرفة، بل إلى قلبٍ بسيط ومحب.
شاهد على القصة: يروي أبونا القمص دانيال المحرقي هذه الواقعة قائلاً: "كنت أتمشى ورأيته واقفاً في قلايته متهللاً جداً... وجهه منور بطريقة غير عادية، وكأنه يراها أمامه ويكلمها".
النهاية المهيبة: حل اللغز في مشهد الجنازة
في آخر أيامه، شعر بمغص رهيب وانتفخت بطنه، وحين أسرع إليه الرهبان بقليل من الينسون الدافئ، لم يستطع حتى أن يرفع يده ليتناوله. كان جسده يتألم، لكن وجهه ظل مشرقاً ومبتسماً كأنه يرى شيئاً جميلاً ينتظره، حتى أسلم روحه بهدوء.
وهنا نعود إلى المشهد الأول الذي بدأ به اللغز. في يوم 20 يونيو 1979، لم يكن هؤلاء الأساقفة والضباط وآلاف الناس يسيرون في جنازة راهب جاهل وفقير، بل كانوا يشاركون في "زفة سماوية" لرجل فهم السر الأعظم: أن القداسة ليست بالكتب ولا بالرتب، بل بقلب بسيط يحب الله.
الجلابية البالية دُفنت في حفرة، لكن النور الذي كان في وجهه لم يستطع أحد أن يدفنه. الرجل الذي عاش لا يمتلك شيئاً، امتلك في موته أغلى جنازة. وعلّمنا بذلك درساً خالداً: لكي تمتلك كل شيء، عليك أولاً أن تتخلى عن كل شيء بإرادتك.
للمزيد من الإلهام، شاهد قصة أبونا أيوب كاملة في هذا الفيديو المؤثر:
القصص العظيمة تزداد قوة عندما نتشاركها. نحن في "حكاية قديس" أكثر من مجرد قناة، نحن عائلة روحية. لا تتردد، انزل الآن وكن جزءًا من هذه العائلة بالاشتراك في القناة وتفعيل الجرس، لتصلك كل حكاية جديدة. اشترك الآن.

تعليقات
إرسال تعليق